آخر الأخبار

الخميس، يونيو 16، 2011

فهم الآخرين وقيمة الشكر


من البدهيِّ أنَّنا نعيشُ في مجتمعٍ، وهذا الأمر لا يخفى على أحدٍ، ومن البدهي أيضًا أنَّنا نتعامَل يوميًّا مع الآخَرين بشتَّى وسائل التعامُل، ونتواصَل معهم بمختلف وسائل الاتِّصال، وكما يقول ابن خلدون في مقدمته: الإنسان اجتماعيٌّ بطبعه.

فلا بُدَّ أنْ نحسن التعامُل مع الآخَرين، أو إنْ شئت: نتفهَّم التصرُّفات التي يتصرَّفونها في مختلف الأحوال والظروف والأوقات، فإذا ما تحقَّق هذا الأمر وركَّزنا في داخِلنا وعرفنا قانون (الدافع) الذي جعَل شخصًا ما يتصرَّف بطريقةٍ ما لا تُعجِبنا - إذا تحقَّق ذلك نكون إذ ذاك قد وسَّعنا مَداركنا وخريطتنا عن العالم الخارجي، ونصبح أيضًا نعذر هذا، ونُسامِح هذا، ونتجاوَز عن هفوات هذا.

ولكن قد نجدُ طوائف كثيرةً من الناس هم في غِطاءٍ عن هذا القانون الذي به نُهوِّن الأمور ونسخِّرها ونُذلِّلها ونُسوِّي بها الأرض، بل نتَّخِذ منه راحة ذاتيَّة داخليَّة؛ إذ نحن أيقنّا أنَّ الآخرين يتَّصفون بصفاتٍ أزليَّة معروفة من مثل صفة النقص والتسرُّع؛ قال تعالى: ﴿ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾ [الأنبياء: 37].

قد نجدُ طوائفَ من الناس مثلاً يُساعِدون الآخَرين ويُعاوِنونهم، ويتصدَّقون على الفقراء والمحتاجين، ويتعهَّدون أحوالهم، ويحنون عليهم حنوَّ الأم على طِفلها، ولكن قد يتذمَّرون لأنهم لم يجدوا صدى هاتيك الأعمال الخيِّرة التي تتمثَّل بشُكرِ صنيعهم ذاك.

من هنا كان لزامًا علينا إمَّا أنْ نُوجِّههم إلى ذاك القانون، وإمَّا أنْ نتوجَّه إلى الناس جميعًا لنشرح لهم فائدةَ الشكر وقيمته في دخيلة الذين يُساعِدونهم ويهبُّون لنجدتهم ويلبُّون طلباتهم.

ولكنَّا آثَرْنا أنْ نبيِّن الأمرَيْن معًا، ونُوضِّح قيمتهما ونكشفهما للناس؛ عساهم ينتفعون بها ويستفيدون منها؛ إذ إنهما أمران لا بُدَّ من تطبيق أحدهما لكي ننعم بالراحة والهدوء.

في البرمجة اللغويَّة العصبيَّة ثَمَّ ما يسمى بالفرضيَّات التي تعني بكلِّ سهولة: المبادئ أو القوانين التي ينبغي لك أنْ تتمثَّلها حتى تفهَمَ السلوك الإنساني وتصرُّفات الآخرين على ما هم عليه.

ومن هذه الفرضيات أو الافتراضات افتراض يقول: الخريطة ليست هي الواقع The map is not the territory، أو بأسلوب منطقي: عدم الوجدان للشيء لا يستلزم عدم وجوده في الواقع، ولنوضِّح هذا المفهوم أضرب مثالاً حصل معي شخصيًّا وهو: أنَّني أردت التحقُّق من صحَّة حديث نبويٍّ معيَّن، وقد توجَّهت لموقعٍ إلكتروني يقدِّم هاته الخدمة، ولكنِّي لم أجد نصَّ هذا الحديث إطلاقًا، فقلت إذ ذاك في نفسي: هذا ليس حديثًا، ثم حدث بعد ذلك أنْ كنت أقرأ في كتابٍ لعالمٍ ثقةٍ، وإذا هو يستَشهِد بهذا الحديث، وإذا هو يضع في الحاشية تخريجه (حديث قدسي صحيح)، وإذا أنا أتذكَّر تلك الحادثة، وإذا أنا أتذكَّر أيضًا تلك المقولة المنطقيَّة التي ذكرتها آنفًا.

إنَّ هذا الأمر يعني أنَّ لكلِّ واحد منَّا خريطته عن العالم الخارجي، وهاته الخريطة تُفسِّر الأحداث والوقائع والتصرُّفات التي يقوم بها الآخَرون وفق خبراتنا المتعلِّقة بها، ولكلٍّ منَّا معلومات يستمدُّها من الحواس الخمس واللغة والفكر والقيم والمعتقدات الثاوية في الذات.

ولا ضير إنْ قلنا: إنَّ المعلومات التي نستقبلها من العالم الخارجي وحتى الأحكام التي نسوقُها عنه إنما هو مثل الجملة الخبريَّة في البلاغة العربيَّة، حيث إنها تحتمل الصواب والخطأ، ولكن رؤية الناس تختلف حسب إدراكاتهم.

ماذا يحدث لو آمنَّا بهذا الافتراض وجعَلناه قانونًا لنا في مختلف ظروف حَياتنا وأحوالها؟
بلا شكٍّ أنَّ خريطتنا ستتوسَّع، وتصوُّرنا عن الآخَرين سيختلف بطريقةٍ إيجابيَّة، ونصبح متفهِّمين وعاذرين، وغير ساخطين أو متذمِّرين.

لو حدث لك موقفٌ مثلاً أنَّ صديقك قال لك: مشكلتي ليس لها حلٌّ إطلاقًا، ما أوَّل شيء ينبغي لك أنْ تقوله له؟!

أفضل كلمة تقولها له بادئ الأمر هو موافقتك له، قل له: حقًّا مشكلتك لا حلَّ لها؛ إذ إنَّك تتعامَل مع خريطة مغايرة لخريطتك؛ إذ إنَّه لا يستطيع أنْ يحلها، أو أنَّ خريطته لم تتعامَل مع هذا النوع من المشكلات، مع أنَّك لو مررت بهاته المشكلة نفسها لأمكنك أنْ تحلها بطريقةٍ سهلة.

ولكنَّ الشخص الآخَر قد لا يملك خريطة متشعِّبة مثلك.

عرفت إذًا فائدة توسيع خريطتك أولاً، وفهم خريطة الآخرين ثانيًا، ومحاولة تطبيق هذا الأمر ثالثًا.

سيحدث أنْ ستساعد أحدهم، وسيحدث ألاَّ يشكرك، أو إنْ شئت سيهجم عليك؛ إذ إنَّك - حسب خريطته - لم تُساعِده! وسيحدث أنَّك ستتفهَّم وضعه وتصوُّره، وتحاول قدْر الإمكان أنْ تشرح له الأمر، أو إنْ شئت تبيِّن له أهميَّة إعذار الناس.

كلُّ ما حولك من آراء بشريَّة إنما قابلة للصدق والكذب، أو الحقيقة وغيرها؛ ولذا ألحُّ عليك مرَّة أخرى بضرورة اتِّباع هذا الافتراض الجميل.

أهمية الشكر:
ولكنَّ الناس قد لا تتحمَّل هذا الجفاء مقابل الإحسان، مع أنَّ ذلك الأمر من سَجايا الإنسان ومزاياه؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ﴾ [فصلت: 51]؛ إذ إنَّ الإنسان مع ربِّه جاحدٌ للنعمة، كافر بها - إلا مَن عصم - فكيف بالله عليك تريدُه يَتعامَل مع أخيه الإنسان.

قرَأتُ فيما سبق عدَّة صَفحات من كتاب: "دع القلق وابدأ الحياة"؛ لمؤلفه ديل كارنيجي، وإذا أنا أجد فصلاً عنوانه "لا تنتظر شكرًا من أحد"، وتحدَّث المؤلف عن هذا الأمر، وساق طائفة صالحة من القصص العجيبة التي تحدَّث أصحابها عن النتيجة التي آلوا إليها وانتهوا عقب تطبيقهم لمضمون العنوان على أرض الواقع؛ إذ إنهم شعروا بالراحة والهدوء والرضا والسلام الداخلي، وعدم اكتراثهم للآخرين؛ سواءٌ أشكروهم أم لم يشكروهم، بالرغم من أنهم ساعَدوهم وسهروا على راحتهم، وأعانوهم كأشد ما تكون الإعانة، وعاونوهم كأحسن ما يكون التعاون، فقلت إذ ذاك في نفسي: يا لها من سعادةٍ تلك التي تأتي على الرغم من المنغصات، ويا له من سرور أنْ تستشعر الرضا عندما تُقدِّم لأحدهم عملاً أو تُسدِي إليه نصيحة أو تساعده في قضاء بعض حوائجه، أو تعاونه في إنجاز أمرٍ ما؛ إذ ظنَّ أنَّه متورط ما من ذلك ريب، ثم لا تنتظر أنْ يقول لك كلمة شكر!

ولكنِّي كذلك كنتُ على علمٍ بالآية الكريمة القائلة: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ [البقرة: 237]، وكذلك قول الرسول الكريم: ((لا يشكُر الله مَن لا يشكر الناس))، وكذلك قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ومَن صنع إليكم معروفًا فكافِئُوه، فإنْ لم تجدوا ما تُكافِئُونه فادعوا له حتى تروا أنَّكم قد كافأتموه)).

فرأيت أنَّ الله تعالى قد وجَّهنا إلى أنْ نأسر قلوب الناس عن طريق شُكرنا لهم، وعدم الإغضاء من فضلهم وقيمة إحسانهم، وكذلك الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهو يُرشِدنا إلى أنْ نعترف بالجميل وفضل المحسن علينا.

إنَّ هاته التوجيهات إنما وُجِدتْ لكي يحدث انسِجام بين الطرفين: المعطِي والمعطَى، ففي حين أنَّ الرسول الكريم أمَر بالصدقة مثلاً وحثَّ عليها؛ لِما تسدُّ به حاجة المحتاج وتكفيه شرَّ مؤونته، وكذلك تتسلَّل السعادة إلى قلبه، بالمقابل ينبغي للمُساعَد أنْ يشكر ذاك المعطي الذي ساعَدَه وتصدَّق عليه لتتحقَّق المعادلة؛ قال الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أحبُّ الناس إلى الله أنفعهم، وأحبُّ الأعمال إلى الله - عزَّ وجلَّ - سرورٌ تدخله على مسلم)).

فإذا حقَّق الذي أنعم الله عليه مضمونَ أوَّل قسمٍ من هذا الحديث الشريف، ينبغي للمحتاج أنْ يَشكُر المعطي حتى يُدخِل إلى قلبه السرور كما فعل من قبل ذاك.

قال الدكتور صموئيل جونسون: "إنَّ الاعتراف بالجميل هو ثمرةُ نبتةٍ عظيمةٍ، وأنت لا تجدُها بين الغلاظ من الناس".

ولكن لا يخلو المجتمع من ناكرٍ للجميل، غير معترف به ولا بفضل أحدٍ عليه، ولا ضيرَ إنْ صادفت أحدًا من هذا الصنف؛ لأنك ستُعمِل فكرك وتُطبِّق تلك الفرضية التي تكلَّمنا عليها آنفًا، ولا تستغرب هذا؛ فقد قال ماركوس أورليوس: "سوف ألاقي اليوم الناس الأنانيين الجاحدين، ولكنَّني لن أصاب بالدهشة أو الارتباك؛ لأنَّني أعجز عن تخيُّل العالم دون وجود أناسٍ كهؤلاء فيه".

نخلصُ في نهاية حديثنا إلى أنَّ الإنسان بطبعه جاحدٌ للنعمة؛ فلا تتوقَّع منه ردًّا حسنًا، وكذلك ينبغي لكلِّ طالبٍ للخير أنْ يجعل كلَّ أعماله خالصةً لوجه الله الكريم، وأنْ يتشبَّث بهاته الآية: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162]، وألاَّ ينتظر شُكرًا من أحد.

وأقول لكلِّ الذين لا يشكُرون مَن أحسن إليهم: ما يضركم لو شكرتم مَن يستحق الشكر، وتُنوِّهون بذكر مَن يستحقُّ التنويه، وتذكَّروا جيدًا هذا القول:
قيل للإسكندر: "أيُّ شيءٍ أنت به أسرُّ؟ قال: قوَّتي على مكافأة مَن أحسن إليَّ بأحسنَ من إحسانه.


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/31699/#ixzz1PT52gXAf

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق