آخر الأخبار

الثلاثاء، مايو 31، 2011

فكّروا للحظة





هذي نصيحة لا يكتبها عادة إلا من اكتوى بنارها ألمًا وحسرة. إني أضحك كثيرًا من نفسي حين كنت أرزخ تحت هذا الأمر، أقصد أن أبني أحلامي وتطلعاتي على شيء واحد، بحيث إن فقدته أكون إذ ذاك قد فقدت كلّ شيء، كنت دائمًا أسيّر رحلة حياتي وجه شخص لا أطيق الحياة دونه، فأبني صروحًا في الهواء، وجسورًا على الماء، وأطلب السمك البعيد عني، وحدث في مخيلتي أني إن فقدته بكيت عليه وضاق صدري بعده. ولكني وأحسبني متيقنًا من ذلك عرفت أنّ تلك الآمال الذاهبة والأحلام الضائعة والأماني الزائفة لا قرار لها ولا حقيقة.





عرفت أن الخيرة هو ما يختاره الله عز وجلّ لي، فازداد إيماني به واشتد اتصالي به . دعوته كثيرًا : يا الله.. يا الله.. يا الله. . ردّدت دائمًا: لا حول ولا قوّة إلا بالله.





إني أعرف الكثير من القصص المؤلمة وهي التي أثّرت عليّ بشكل كبير، وكأني أعيش فصولها وكأني أنا العاشق أو المديون أو المطرود أو المحدود أو المظلوم أو المخذول أو المخون . كأني بهم أكابد آلامهم وأرثي حالهم وأتفجع لمصابهم، فلا أكاد أنام الليالي تفكيرًا بهم ؛ لأني مثلهم قد عانيتُ كثيرًا جدًا قبل أن أجدني أعلم علم اليقين أن أكثر الحالات يكون الوهم مسيطرًا على الشخص لا ينفكّ عنه، فيضيع زهرة عمره، فلا هو سعد بتحقيق وهمه ولا هو سرّ بحاضره الذي بدّده، ولا أملاً أفاد، ولا حياة حفظ، كأن ينتظر شخصٌ شخصًا آخر عبثًا، أو يعقد شخص على آخر كل آماله وأحلامه ، أو تراه وااقفًا على الأطلال ينتظر قدوم ليلى التي أرهقتنا كثيرًا، أو تراه يتربص مسمرًا عينيه بباب الدار علّ فلانًا يطرقه.





آه،،، لأجلكم أنتم أنا أعانـــ،،،ـــ،،ــي ،،، لأجلكم أنتم أنا أكابد الآلام وأعالج الهموم والحسرات،،،، لأجلكم أنتم يا من سمحتم لغبار السراب يتخلل إلى قريرتكم فاسودّت الدنيا بعينيكم ورغم هذا تكابرون حتى لا يعلم أحد بشكواااكم!!!... إني أشعر معكم وأتألم لحالكم كثيرًا،،، لأجل ذلك أنا أكتب كلماتي هذه علّها تنسلّ وتندغم في داخلكم،،، فإن كان لي عندكم من مكانة فلتقبلوا نصيحتي التي لم أكتبها وأنا أرتشف من فنجان قهوة على شاطئ النيل أوزّع نظراتي في الأفق البعيد!!!!



لا، لا ، لا ،،، لم أكتبها إلا بتامور قلبي ،،،،،،،



فأرجوكم ثم أرجوكم ثم أرجوكم أن تسمعوا كلامي وتنصتوا لقولي وأن لا تدعوا قطار العمر يفوتكم ويمرّ هكذا بين الأنين وغصّة الذكرى.



اعلموا أن الله يقول في كتابه العزيز :"وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شرٌّ لكم".... ثقوا تمامًا بالله تعالى...توكلوا عليه... استعينوا به... فوّضوا أمركم إليه...وإذا سألتم فاسألوه.. وإذا استعنتم فاستعينوه...

قولوا : يا رب ... يا رب ... يا رب... ما لنا سواك . أنت تعلم ضعفنا وقلة حيلتنا.. يا رب : نحن لا نحسن التصرف... فتولّ أمرنا يا رب...



يا رب: لا تجعلنا سجناء الأوهام ولا أسراء الأحزان...

ربما تقولون : لو كنت مكاننا وفي مثابتنا لكان لك رأي آخر، ولكني أقول: إذا استعنتم بالله فقد استعنتم بمن بيده ملكوت السماوات والأرض ومن بيده مفاتيح السعادة النفسية. إن الله يعلم ونحن لا نعلم. فعلمه فوق علمنا وقدرته فوق قدرتنا فحريّ بنا أن نُلجئ أمرنا إليه.



أقول : قد تتحقق الأحلام البعيدة المنال وقد يغدو الحلم واقعًا، وقد ينجو غريقكم ويشفى مريضكم و يثوب غائبكم، وينجح طالبكم ويَرِدُ حوّامكم... فإن حصل هذا الامر فأيققنوا تمامًا بأن الله تعالى يعلم أن في ذلك الخير لكم،، ولكن لا تقلقوا بل رددوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، ففيها ستون مسألة أدناها الفرج.



أتمنى أن تقرأوا هذه الهمسات مرات عديدة وكرات مديدة، وحاولوا أن تتقبلوها ففيها بإذن الله تعالى الفرج والتيسير وانشراح الصدر.



اعلموا أنه حينما يأتيكم من ينتشلكم من حضيض الآلام التي تعيشون تحتها فإنه مقيّض بأمر الله تعالى، جاء به ليبعث موات قلوبكم ولينشر السعادة في ذاتكم ... وأسألكم بالله العظيم أن تتفاءلوا بالخير لإنكم إن تفاءلتم بالخير فسوف تجدوه حاضرًا نصب أعينكم.... فليس على الله بعزيز أن يصبح جِدًا ما لهوتم به، وحقيقة ما حسبتموه خيالاً.
والله الموفق إلى كل خير

الأحد، مايو 29، 2011

رفقًا بالقوارير




أيها الرجال الرجال

استوصوا بالنساء خيرًا
أيّ لآمةٍ هاته التي يحملها رجلٌ كي يضرب امرأته، بعد أن كانت في بيت أبيها معزّزة مكرّمة، وزهرة يانعة!؟
أهو صحراء قاحلة تموت فيها كلّ الزهور؟!
أهو صخرة يتكسر عليها كلّ معنى للحنان والرحمة؟!

أكان الزواج للسكينة والوقار أم ساحة قتال من طرف واحد؟!
ألم يسمع الزوج بوصايا النبي الكريم في البنات والزوجات؟!
ما وجدتُ جنونًا يعدل هذا الجنون! جنونٌ لا يفعله إلا المجانين!
لماذا تضرب امرأتك أيهذا الرجل؟
من أعطاك شرعية الضرب والشتم واللعن والدعاء بالويل والثبور؟
هل الإسلام يأمرك بهذا؟!




الآن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصعد إلى المنبر في خطبة حجّة الوداع. إنه الآن في السنة العاشرة من الهجرة. في التاسع من ذي الحجّة. في يوم الحجّ الأكبر يومِ عرفة. أنصت له وهو يستفتح خطبته :"الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله".

وأنعم الإنصات وهو يتكلم على عدّة أمور مهمّة جدًا.ها هو الآن يحرّم الربا ويبتدئ بوضع ربا عمّه العبّاس تحت قدميه. 
أمعن الاستماع أيضًا وهو يبطل مآثر الجاهلية الباطلة. ها هو يبطل الثأر إذن. ويحلّ محلهّا القصاص [والعمْد قوَد].

يا إلهي! أمور خطيرة يتكلم عنها النبي الكريم في أول خطبة له آخرها.

دقّق السمع الآن لا النظر. اسمع بقلبك وعقلك وهو يخاطبك أيها الرجل :" أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقاً ولكم عليهن حق"
أيّ تكريم للمرأة في هذا الموقف المهم!  لله درها من مصونة ومن كريمة حرّة!!!!

"استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً" أي جمال بلاغي فيه من الكلمات القليلة ما فيه، ومع ذلك فيه من الكنوز العظيمة خلف هاته الكلمات ما فيها!
يوصيك أيها الزوجُ النبيُ الكريم بأن تحسن تعاملك مع زوجتك التي لا تملك لنفسها شيئًا. إنها كما الأسيرة عندك. فهلّا أكرمتها! فهلّا أحسنت وفادتها! فهلّا احترمتها!

واستمع أيضًا إلى موضع آخر من المواضع التي تكلم الرسول الكريم فيها :" خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"
يوصيك الرسول الكريم بامرأتك خيرًا وكأنه يحرّم طلاقهنّ. فهلّا عطفت على رفيقة دربك، وأم ولدك!
ولنا في رسول الله أسوة حسنة، فقد روي عنه أنه لم يضرب خادمًا قطّ، ولا امرأة.
"كفى بالمرء إثمًا أن يضيّع ما يعول"

"إنما النساء شقائق الرجال، ما أكرمهن إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم"
هي شقيقتك أيها الزوج!  هل ترضى بأن يضرب شقيقتَك زوجها؟! أزعم أنك لو علمت أن شقيقتك زوجها يهينها لما سكتت!
أسأل الله الكريم ربّ العرش العظيم أن يهيّئ للنساء أزواجًا يسعدونهنّ ويعطفون عليهنّ ويكونون لهم نعم الرجل ونعم الزوج. إنه وليّ ذلك والقادر عليه.



الخميس، مايو 26، 2011

المربع الوهمي



تحكي لنا كتب التراث عن ذلك الرجل الساذج الذي استوقف مجموعة من الأطفال كانوا يلعبون في أحد الشوارع قائلاً لهم: إنّ في بيت أبي فلانٍ وليمةَ عشاءٍ. فما كان منهم إلا أن انطلقوا إلى بيت ذاك الكريم لا يلوون على شيء! كيف لا وقد أخذوا من ذلك الرجل معلومة موثّقة لا مجال للقدح فيها.

فلمّا أن رأى ذلك الرجل الساذج صنيعهم إذا هو يصدّق كذبته وينطلق وراءهم لعلّ عشاء في بيت أبي فلانٍ يكونُ!
هذه القصّة التي يتنكرّ لها كلّ من سمع بها قد تكون مرّت على طائفة كبيرة من الناس دون أن يدروا!

كثيرٌ من الناس لديهم طاقات فكرية وعقلية وجسمية ونفسية كامنةٌ فيهم، ولكنهم لم يكتشفوها إلى الآن، وهذا يردنا إلى المقولة الفلسفية التي تصوّر هذا الموقف:
عدمُ الوجدان للشيء لا يستلزم عدم وجوده على أرض الواقع.

فمثلاً: هناك قوانين الطبيعة التي تعمل عملها بجهد والتزام دائبين، فسواءٌ عليك أكتشفتها أم لم تكتشفها هي عاملة وموجودة.

ولكن ما الذي يحدث لو اكتشفت واحدًا من هذه القوانين؟
بالطبع سيمكّنك هذا الاكتشاف من التعامل معه بشكل جيّد والتعرف على طريقة عمله واستغلاله استغلالاً يعود عليك بالنفع.

قل مثل ذلك في أعظم قوّة في العالم كلّه. قوّة العقل التي في رأسك. هذه القوّة تعمل عملها سواءٌ عليك أعرفت أم كنت من الجاهلين، وبما أننا كشفنا لك هذا السرّ فيمكنك أن تنتقش من هذا الأمر أنّ هذا العقل ثمين جدًا ولديه قوّة خارقة جدًا. كيف لا وهو أعظم قوّة على الإطلاق.

المؤسف حقًا أنّ كثيرًا من الناس لم يستغلوا العقل أو استغلوه ولكن ليست بطريقة سليمة مما عاد عليهم وعلى العالم بالحروب والدمار والخراب.

والمؤسف أيضًا أن لا يستغلّ الفرد منّا عقله بأي طريقة، فهو يعدّه عبئًا عليه، لا به يفكر ولا للمجتمع من أعمال جليلة يقدّم. فتراه متبلّدًا كسولاً متواكلاً. فهو والعدم سواء.

إنّ الله عزّ وجلّ حينما تعلّقت إرادته بإيجاد خليفة في الأرض، ألا وهو الإنسان، اقتضت إرادته أيضًا تزويده بسلاح به يمخر عباب المجهول ويأخذ في اكتشافها.

العقل. تلك الطاقة العجيبة التي يغفل عنها كثيرٌ من الناس، فإذا هم تعبون في حياتهم، يعيشون برتابة قاتلة. ليس لديهم من أهداف ولا خططٌ مستقبلية. إنهم بذلك يكبّلون عقولهم ويضعونه في مربّع وهمي. أجل يقيدونه بحبال من الأوهام ويلقون به في غيابات جبّ النسيان. نسوه فنسوا أنفسهم، فعاشوا كعيشة البهائم –أجلّكم الله- كلّ همهم إشباع غرائزهم وإملاء حاجاتهم الجسدية، وحسبُ.

أمّا أن يخططوا، أما أن يفكروا بطريقة سليمة، أمّا أن يجتهدوا في طلب العلم، أمّا أن يمشوا في مناكب الأرض التي سخّرها الله لهم وذللها. فكل أولئك هم في غطاء عنها.

إلى متى هذا التخلف عن الركب؟! إلى متى هذا الاستغناء عن هذا العقل؟!
ألم يعلموا أنّ الله سيحاسبهم على تعطيلهم هذه القوّة؟!

ألم يأزف الوقت بعد لتشغيل الفكر وإعماله والخروج من الدنيا بنتيجة تحسب لهم؟

والعجيب أيضًا أنّ مثل هؤلاء الناس أغلبهم متشاؤمون، يرون الحياة لونًا واحدًا هو الأسود ليس غيرُ. يعتقدون أن الناس جميعًا إنما يفكر بتفكيرهم السطحي الساذج.

قلت لكم إنه المربع الوهمي. أجل هو المشكلة.
إنّ حلّ هذه المشكلة يكمن في تدبّر قوله تعالى: "إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم".

وإن تدبرتَ أخي المفضال هذه الآية الكريمة جيدًا سيصبح للحياة إذ ذاك معنى مغايرٌ وجميلٌ.



الأحد، مايو 22، 2011

لَذّة النجاح




لَم أجد كاليوم أعقل من فتاةٍ أو شاب، ازْوَرَّ عنهما أملُهما الذي انتظراه طويلاً، وتنكَّر لهما بعد أن أنْفَقا سنين عُمرَيْهما الزاهرة، يعيشان في حُلم جميل ساذج كاذبٍ، ولكنَّه لَم يتحقَّق، ولَم يَنبلج صُبح الحقيقة المُورِق كما كانا يأمُلان، بل انكشَفت لهما هاتِيك الحقيقة - كأشدِّ ما يكون الانكشاف - مُظلمة مُحبطة.

أقول: لَم أجد كاليوم أعقل من شابٍّ أو فتاة استقبلا مآلَ أملِهما الموهوم بصبرٍ وجَلَدٍ وتبصُّر، وقارعاه بأملٍ جديد وحُلم أجمل يتطلَّعان إليه، ويَوَدَّان لو تَحْمِلهما مَطيَّة الليالي والأيام، مُسرعة بهما، ذارِعةً الأرضَ إلى أن يتحقَّق لهما ما أرادا، ويَنْسري عنهما همُّهما.

هذا لعَمري فِكر ثاقبٌ في الإنسان حين يفْصِل ما بين الأحلام الأحلام، والأحلام غير الأحلام، حينما يضع برزخًا بين الأحلام الممكن تحقيقها، والأحلام التي لا يجد إلى بلوغ مرامها من سبيلٍ، حين يتيقَّن من أنَّ التوقُّع يعني الإمكان، وأنَّ الانتظار يعني الاستحالة.

كثيرٌ من الناس أجدهم يتعلَّقون كأكثر ما يكون التعلُّق بأوهامٍ جميلة، ولكنَّها كاذبة، وأجدهم يتشبَّثون كأقصى ما يكون التشبُّث بآمالٍ وادعة، ولكنَّها خادعة، وأجدهم يتمسَّكون كأكبر ما يكون التمسُّك بآمالٍ حالِمة، ولكنَّها بكلِّ سهولة خائنة.

وكثيرٌ من الناس أيضًا ما أن يستيقظوا من سُباتهم العميق الجميل اللذيذ - في نظرهم - حتى يدبَّ بهم اليأْس دبيبَ الحُمَّى في جِرْم المريض، وليس هذا فحسب، بل يفكِّرون جِديًّا في طريقة فاعلة للتخلُّص من الحياة، وتفضيل الموت عليها، فأملُهم قد ضاع، وأحلامهم قد ذهبتْ أدراج الرياح، وتطلُّعاتهم قد أصبحَتْ هباءً منثورًا، فلِمَ العيش إذًا؟! وتصحُّ عزيمتهم حقًّا على الانتحار، فمنهم مَن انتَقم لنفسه من الظروف وانتحَر، ومنهم مَن ينتظر الفرصة السانحة؛ كي يلحقَ بهم.

وهل الحياة تستحقُّ منَّا كلَّ هذه الضوضاء الضارَّة؛ حتى نجعل كلَّ تطلُّعاتنا وآمالنا وَقْفًا عليها؟! وهل تستأْهِل كلَّ هاتِه التضحيات بأنفسنا؛ حتى يصيرَ مآلُنا إلى ما لا تُحْمد عُقباه؟!

إني أُكْبِرُ جدًّا هاته الفتاة، وأُعظِم كثيرًا هذا الشابَّ، أُكْبرُهما وأُعظِمهما؛ إذ عرَفا كيف تكون الحياة، وعَلِما كيف تصير الأحداث، وأيْقَنا أنَّ الناس تُخطِّط وتَحلُم، وأنَّ الأيام تسيرُ رياحُها على عكس ما يُخَطِّطون وضد ما يحلمون؛ إذ قد ابْتَلَيَا أطوار الحياة واختبرَاها، وعرَفا أنَّها ليستْ دائمًا معهما، بل في كثيرٍ من الأحايين لا بدَّ لها من أن تقسوَ عليهما وتُذيقهما مرارةً لا يعرف طعمَها إلاَّ مَن ذاقَها شرَّ مَذاقٍ.

أجَل، إنَّ الحياة كلَّها لا تستحق منَّا أن نقدِّم أنفسنا رهينةً لها، ثم لا نستطيع فَكاكًا وهروبًا منها ومن المنغِّصات والعاديات إلاَّ بالانتحار، في حين أنَّنا في الآخرة سنذوق أشدَّ العذاب وأقساه!

الآمال ما زالتْ تُعَدُّ آمالاً فحسب، فإنْ تحقَّقت فنِعِمَّا هي، وإنْ لَم تتحقَّق، فلا تأسف عليها؛ إذ إنَّ الله - تعالى - قد وقانا شرَّها وعاقِبتها، فلِمَ التعلُّق بها وتوقيف الحياة عليها دونما فائدة ودونما نتيجة؟!

إنْ كان أمَلُك قد تبخَّر، وتطلُّعاتك تلاشَت بعد طول انتظار وفارغ صبْرٍ، وإنْ كانت الأحلام التي لَم تكن تمتلك غيرَها، ثم لَم يُكتب لك تحقيقُها، وإنْ كانت صروف الدَّهر وبقائعه أذاقتْك من الضَّنك الشيءَ الكثير، وأرْهَقتك وأتْعَبتك، فأجْملُ شيءٍ وأقساه، وأصْعَبه وأحْسَنه، هو أن تقارِعَ كلَّ هاتيك الظروف بأمَلٍ جديد، وعزيمة لا تَلين، وتحمُّلٍ لا يَخور، وقوَّة على الثبات على أرضيَّة الحياة؛ حتى تترقَّى صعودًا في مدارج النجاح، حيثُ الراحة والسكينة، والأمل المنشود.

لا تأْسَفَنَّ على حُبٍّ ضائع، ولا على صديق خائنٍ، ولا على سعادةٍ تنكَّرتْ لك، لطالَما ظننْتَها مصدرَ الوَقار والارتياح، لا تَحْزنَنْ على غدر الأيام، وفعْل الليالي، فكلُّ يومٍ فيه من الشرِّ ما فيه، ونفس اليوم فيه من الخير أيضًا ما فيه، فانْتَقِشْ منه ما يسرُّك، واجعَلْ شرَّه دُبَرَ أُذُنك، أو إن شِئْتَ فاستقبِلْه بجَلَدٍ وصبْرٍ وعُنفوان، وهكذا الرجل الصَّلد يكون، وهكذا المرأة الصابرة تكون، فكلاهما ينطلق من صفةٍ واحدة تمكِّنه من العيش بأقلِّ الخسائر، وليس هذا وحَسب، بل يَجنح دائمًا إلى قلب المعْطَيات، فتستحيل المصيبة فائدةً، ويَغدو الشرُّ خيرًا.

ولستُ أعجبُ من شيءٍ كعجبي من شخص سَهِر الليالي الكثيرة صادًّا عن النوم، أو صادًّا عنه النوم، ثم يفكِّر ويُطيل التفكير، ولكن لا يجد فائدةً منه، وينظر إلى السماء؛ علَّ فرجَها قريبٌ منه، ثم يَجنح نظره للنجوم؛ ليْتَ غمَّه يزول على يَديها، ثم يَركن أخيرًا إلى أن ينام؛ عساه يُخَفِّف من طامَّته، وعبثًا ينظر وعبثًا يَجنح، وعبثًا يَركن، فلا السماء تفرِّج همَّه، ولا القمر يزيل غمَّه، ولا النوم يُخفِّف عنه طامَّته، فكيف السبيل إلى الهدوء إذًا؟!

هل يَركن إلى اليأْس، ويَجنح للقنوط ويستسلم؟ أو أنَّ عليه التجلُّدَ ما وَسِعه التجلُّد، والثبات ما وَسِعه الثبات؟

أعْجَب كثيرًا من ذلك الشخص الذي يختار الطريق الثاني، طريقًا تضاريسُه وَعْرَةٌ، ولكنَّ نهايته لذيذة، فيبدأ يومه ويستقبله برُوح معنويَّة عالية، وبنفسيَّة سامكة، وبِمِزاج مُعتدل، فيُيَمِّم صوب الأهداف التي يبتغي أن يُحقِّقها؛ حتى يكون له ما يريد، لا يَريم ولا يَتحرك عنه قَيْد أُنْمُلَة، فيسعى ويجدُّ السعي، ويفكِّر ويُكثر التفكير، ولكنَّه تفكيرُ مَن يَروم أنْ يُلامس أعالي الذُّرى، ويُخطط ولا يلْتفِت وراءه، بل يسير وعينه على النهاية التي تَصَوَّرها في دخيلته، وكأنه انسلَخ عن ضَعفه، أو انسلخ الضَّعف عنه، فعهْدُه بأيَّام البؤْس قد ولَّى، وعهْدُه بساعات اليأْس قد انقَضى، وعهده بأوقات الخُنوع قد تلاشَى وانْمَحى.

وأُطيل العجب أكثر من شخصٍ ماضيه مؤلِم وحاضره مُحزن، وأجد أنه يفكِّر فيُغرب في التفكير، ويتأمَّل فيُغرق في التأمُّل، فلا تفكيره ينفعه، ولا تأمُّله يَشفيه، وإذا هو يَتدارك أمرَه، وإذا هو قد قرَّر أنْ لا مناصَ للخروج من هاته الدوَّامة إلاَّ ببناء أهدافٍ جديدة يعمل من أجْل تحقيقها، وبذلك ينتقل فِكره من الخوض في الماضي وتعرُّجاته، والحاضر وتقلُّباته، إلى الإمعان في المستقبل، ولا شيءَ سوى المستقبل، فكلُّ عَقَبة يسخِّرها، وكل مشكلة تعترض طريقه يذلِّلها، وكلُّ مُثبِّط يُزيله، وكلُّ تَحَدٍّ يُسَوِّي به الأرض، وهكذا أيْقَنَ أنَّ المستقبل يلوح له ويتراءَى بوضوح، فيَبذُل كلَّ ما بوسعه من جُهد وطاقات؛ لكي يحقِّق ما كان يصبو إليه، ويظفر برقصة النجاح مُبتهجًا مسرورًا.

أجَل، إنَّ الدنيا كما أنها أضْيَقُ مما نعتقد، فهي أيضًا أوْسَع مما نؤمن، فالذي يراها واسعةً ويغضُّ الطرْف عن الغاية التي وُجِد من أجْلها، ستقتله وتَرميه، وتَجعله كما الطائر المَهِيض، والذي ينظر إليها من ثُقب إبْرة صغير، لا يستطيع أن يواكب أحداثها، ويتعامل مع مُعطياتها، ستُهْمله وتجدُّ السَّيْر دونه، فالأمر الوسط هو أن نتطلَّع إلى الدنيا بدافع الإيمان بالله - تعالى - وخدمة البشريَّة، بعد أن نُرضي أنفسنا ونُمتِّعها متاعًا حسنًا، وبهاته النتيجة سنوجد التوازُن السليم في قريرتنا، فالنجاح يجعلنا نستشعر لذَّته بعيدًا عن الغرور، والفشل يجعلنا نفيء إلى رُشدنا بعيدًا عن اليأْس والقُنوط.

وفي النهاية، أسألُ الله - تعالى - أن يجعلنا ناجحين، وأن يوفِّقنا جميعًا إلى ما فيه خيرَا الدنيا والآخرة؛ إنَّه وَلِيُّ ذلك والقادر عليه.

السبت، مايو 07، 2011

استفزاز الذاكرة



استفزاز الذاكرة
قد يحدث أن تخرج من تجربة سعيدةٍ أو حزينةٍ

يحدُث أنْ تخرجَ من تجربةٍ سعيدةٍ أو حزينةٍ - لا يهمُّ الأمر - ويحدث أن تنفقَ الساعاتِ والأيامَ والشهورَ وأنت لاهٍ عنها غير مكترثٍ بها، وذلك بعد أنْ أحرقت في داخِلك غابات من الحبِّ أو الحنين، فأصبحتْ كقِطَع الثلج أو رمادًا، ونظَّفت قلبك من آثار الحبِّ والأمل الموهوم.

ويحدث أيضًا أنْ تُسيِّر حياتك بوجهٍ مُرْضٍ لك، إذا أنت رفعت شعار: "ارضَ بما ليس منه بُدٌّ"، وها أنت ذا تُحاوِل أن ترسيَ ذلك الشعار في قريرتك؛ بحيث يصبح ذا حُضورٍ قويٍّ تَخاف معه الجنوح لذلك الماضي.

ويحدث أنْ توهم نفسك بأنَّ الماضي قد انمحى من ذاكرتك، وبأنَّك أصبحت بلا ذاكرة، أو إنْ شِئتَ بذاكرةٍ جديدةٍ تختلف اختلافًا جذريًّا عن الذاكرة القديمة، وتُحاوِل أنْ تعيش وفقًا لها؛ فتأتي وتذهب، وتصادق وتعاون، وتغضب وترضى، وكأنَّك لم تكن في يومٍ من الأيَّام على موعدٍ مع الأحزان أو التجارب القاتلة.

وتتوهَّم أيضًا بأنَّ هذه الذاكرة البِكْرَ قد أعادَتْ لحياتك توازُنها، ولوجهك رواءَه، ولبسمتك روعتها، ولنفسيَّتك هُدوءها، ولقلبك نبضَه وحياتَه.

ويحدث أنْ تستَمتِع بحياتك الجديدة بعضَ الوقت، وأنْ تصبح مأخوذًا بها، وأنْ تكون في غبطةٍ من أمرك، لا تخفي تلك الابتسامة الغامضة التي تكسو وجهك وتعلو محيَّاك، إلا شيئًا قليلاً من سعادتك بوضعك الجديد.

ولكن ما أنْ تختلي بنفسك بعيدًا عن صخب الحياة وضوضائها حتى يتأوَّبك ذلك الماضي الأليم، ويتراءى لك وكأنه حاضرك، وإذا أنت تستعيدُ تفاصيل كلِّ هاتيك الذكريات التي جاهدتَ عبثًا في نِسيانها أو تَناسيها، وإذا حالُك قد انقَلبَ، وإذا نفسيَّتك قد تعكَّر صفوُها، وإذا أنت لا تعرف ماذا تعمل!

ألهذا الحدِّ تستفزُّك الذاكرة، وتقضُّ عليك مضجعك، وتأتيك من حيث لا تحتسب، بعد أنْ وطَّنتَ نفسك على الحياة الجديدة، وعاهَدتها بأنْ تغسل يديك من آثار الماضي وألمه؟

أللذاكرة هذا الحضور القويُّ الملحُّ الذي يكون كفيلاً باستحالة حياتك في لحظةِ هدوء جئتَ تبتغيها بعيدًا عن ضوضاء الحياة؟!

إذًا ثابَتْ إليك الذاكرة الأمُّ، حاملةً معها ملفَّات كلِّ شيء، وطفقْتَ تبحَثُ عن مخرجٍ سريع لهذه المشكلة.

وعندما يَثُوب الشيء في لحظة غفلة تصبح الأمور هنالك مُربِكة كثيرًا؛ ولهذا فأنت لا تستطيع أنْ تمنعها من الولوج، ولا أنت تستطيع أنْ تجبرها على المغادرة.

إذًا دَعْها تقيم فيك بعض الوقت، إذ هي سترحل ما من ذلك شكّ.

سترحل بعد أنْ تحقق أهدافها التي تكمُن في أنها حاضِرةٌ، وأنَّه من العسير عليك أنْ تتخلَّى عنها وقد كانت في يومٍ من الأيام حياتك وآمالك وطُموحاتك وأهدافك، وكأنَّك بها تقول: أتراك تتنكَّر لي وتنسى أجمل ساعاتي؟ ألهذا الحدِّ كفرت بي وبلحظات سعادتك؟

إنها لأمورٌ محرجةٌ هذه التي تتنكَّر لها بعد أنْ كنت كلَّ شيء لها، أو بعد أنْ كانت كلَّ شيء لك، وها أنت ذا تخرج من جلدها!

ويحدث أنْ تبكيَ بكاء مُرًّا، وأنْ تخضلَّ عيناك بالدمع المختلط بالدم:

تَأَوَّبَنِي لَيْلٌ بِيَثْرِبَ أَعْسَرُ
وَهَمٌّ، إِذَا مَا نَوَّمَ النَّاسُ مُسْهِرُ
لِذِكْرَى حَبِيبٍ هَيَّجَتْ ثُمَّ عَبْرَةً
سَفُوحًا، وَأَسْبَابُ البُكَاءِ التَّذَكُّرُ

يحدُث هذا وأنت في حيرة من أمرِك، لا تعرف ماذا تفعل؟ ولا أيَّ الطريقين تسلُك؟ هل تسلُك طريق الماضي فتنقِّب عن دهاليزه، ومنحنياته، ومنعطفاته، ثم لا تجدُ سوى الذكرى تتربَّص بك في أحد الممرَّات الضيِّقة، أم تسلُك طريق المستقبل، وتقطع صلتك بالماضي وتصبح إنسانًا جديدًا لا علاقة له به؟

هل تبكي على طلول الماضي وآثار الدِّيار، وتستبكي معك مَن هم حولك حتى يُقدِّروا معاناتك ويعذروك؟

وَلَقَدْ أَرَى أَنَّ البُكَاءَ سَفَاهَةٌ
وَلَسَوْفَ يُولَعُ بِالبُكَا مَنْ يُفْجَعُ

أم تتغلَّب على ضعفك وتيمِّم صوب المستقبل، وتُحاوِل البحث عن مرسًى تُثبِّت قدميك فيه بعيدًا عن رياح الماضي وعواصف الذكرى؟

سَأَعِيشُ رَغْمَ الدَّاءِ وَالأَعْدَاءِ
كَالنَّسْرِ فَوْقَ القِمَّةِ الشَّمَّاءِ

إنَّ الأمر إنما يرتَكِز على همَّتك وإرادتك، أو إنْ شئت على سعادتك وهنائك؛ إذ إنَّ الكثيرين من الناس يرَوْن في استحضار صورة الماضي والعيش فيه وعلى ظِلاله نشوةً تَفُوق نشوة الاستِمتاع بالحاضر إنْ وجدت مقوماته، فلماذا نقطع على هؤلاء سعادتهم وهناءهم؟

إنَّنا نعذر هؤلاء لأنهم لم يجدوا واقعًا يمكنهم من العيش فيه بتصالحٍ مع الحياة وظُروفها؛ فلذلك فاؤوا إلى الماضي حيث شجرات الذكريَّات والحنين الوارفة الظلال.

وأعجَبُ من هذا أن تجد أحدَهم معذبًا في حاضِرِه، وتراه مستمتعًا بذلك مغتبطًا، فمن ذلك ما رواه ابنُ حزم الأندلسي في كاتبه "طوق الحمامة" من أنَّه علم فتًى من بعض معارفه قد تورَّط في الحبِّ ووقع في شركه، وقد رأى ابن حزم على وجهه أثر الاكتئاب وسوء الحال، فقال له في بعض قوله: "فرَّج الله عنك"، فما كان من ابن حزم إلا أنْ رأى أثَر الكراهية في وجهه، وكثيرةٌ هي القصص التي تندرج تحت هذا النمط.

ولكنَّ الشيء المحزن حقًّا أنْ ترى أناسًا لا يستطيعون أنْ ينفكُّوا من الماضي برغم كلِّ محاولاتهم في نِسيانه التي دائمًا ما تَبُوء بالفشل، فلا هو كسب شيئًا في الماضي، ولا هو سعد في الحاضر، وأخلِقْ به مُتَجافيًا عن السعادة في المستقبل.

إنها الذاكرة حين تطلُّ عليك دُون موعدٍ مسبَّق معك،؛ لتخرج سعادتك الموهومة من النافذة.

فلتحذر!

الأحد، مايو 01، 2011

المتاع الخالد



بعد أن عاهَد نفسه على نسيانها والإغضاء من خطر اللحظات الجميلة التي عاشها مغبونًا، تأوَّبته ذكراها، واختلفتْ إليه تلك الأيام التي عدَّها قبلاً خالدة، وإذا هي الآن وبعد فوات الأوان، وكشْف الحجاب عن نيَّاتها مُرَّةً عَلقمًا، فراح يكتب بقلم من ضرام قصة فَشَلِه في الحبِّ.



من أين جئتِ؟ وكيف هي المصادفة التي جعلتني أتقاطع معك بطريقة سريَّة، وأنا الذي قد سَئِم الأصدقاء، وملَّ من تصرُّفاتهم؟



كثيرٌ من المصادفات أجمل من ألف موعد وألف لقاءٍ مرَتَّب مسبقًا، ولكنَّكِ كنتِ أجمل من كلِّ شيءٍ، وأقسى من كلِّ شيء، وأشرس من كلِّ شيء.



هل هناك من رابط بين حضورك القوي وبين تورُّطي بصداقة عَجْفاء؟! هل أنتِ مَن ستجعلني أستغني عن كلِّ شيء؛ لأَبْني معك مشروع وطنٍ هو أنتِ؟! أو مشروع حياة صغيرة تكفي كِلَيْنا كثيرًا من الوقت؟



لا أدري كيف أتيتِ؟ هل لأني اقتنعت بصداقة كاذبة؟ أم لأني قاوَمت ذلك القانون المستبدَّ؟ أم لأني لَم أدعْ مجالاً للآخرين لفَهمي، وأنا الذي لا يفهمني إلاَّ امرأةٌ واحدةٌ هي أنتِ؟



يا امرأة تُشبه وطنًا رحَل عنه أبناؤه، وبَقِي وحيدًا يصارع قانون الصداقة.



يا مدينةً استسلَمتْ لبطْش الأعداء، وأذْعَنت لهم.



كيف أتيتِ؟ ولماذا؟



هل لتنقذيني؟ أم لتجهزي عليّ؟ وأنا المنهار منذ زمن، منذ أن كنتُ أَتَرَقَّب حضورك في أحد مواسم الصيف المحرِقة، والتي اتَّحدت مع حرارتي الجارفة نحو الحبِّ، نحو الأمل، ونحو الحياة.



كنتُ أراكِ تبحثين عنِّي في كلِّ مكان: شرقًا وغربًا، ولكنَّك لَم تجعلي لقوَّتك عليك سيطرة، فذهبتِ تعتذرين كأقسى ما يكون الاعتذار، وأنا الذي قد جئتُ بقدمي صوبك لتفتحي عليّ رشاشات جنونك، وتتركيني جريحَ معركة لَم أكن طرفًا فيها، وأنا السيف والقلم.



وابتعدنا إذن بعد أن لَم يكن يَفْصلنا عن بعضنا بعضًا سوى لقاءٍ واحدٍ فيه شيءٌ كثيرٌ من زخارف الكلام، وأنا الذي لَم أُحسن المراوغة، ولَم أُحسن الكذب، ألِهَذا الحدِّ تُريدينني كاذبًا؛ كي أظفرَ بجنونك، كي أستلقي على شواطئ غدرك، كي أموت كلَّ مرَّة؟



أكان حقًّا أني الْتقيت بكِ في دائرة ما مِن دوائر الزمن؟ أكان حقًّا أني تحدَّثت إليك أحاديث كثيرة، لا مجال فيها للمُراوغة أو الكذب؟



وأنتِ التي أغريتني كثيرًا واستفززتني؛ كي أقاوِمَ نار اللهب التي كانت مشتعلة في قريرتي، وأنتصر على ضَعفي، وأتقدَّم نحوك بخُطًى شبه ثابتة؛ كي ألفح وجهك بنار حبِّي.



هل لأني صادقٌ لَم تقبليني؟ هل لأني كنت المبادر رفْضتني، وأنا الرجل الذي يعيش في مجتمع شرقي، وأنت المرأة التي غيَّرت قانون الشرق في كلِّ شيء؟



الشرق! وأنا الذي ابتدأتُ قصتي معك في الغرب، حينما كنتُ أتضوَّر جوعًا عاطفيًّا لأجدك وجبة تستحقُّ الأكل، ولكن ليس كأيِّ أكلٍ، بل كنتِ غايتي وهدفي.



ولكنَّكِ تركتني وحيدًا جائعًا بعدَ ذلك، كنتُ أرى في كلِّ وجْهٍ إياك أو وجْهَك، في كل بيتِ بيتك، في كلِّ جنون جنونك.



لا أدري: هل أحتفل؛ لأني كسَرت حاجز خوفي؟ أم أحزن؛ لأني لَم أستطع ترجمة جُرْأتي إلى حياةٍ، إلى حُلم، إلى طريقة للعيْش؟



يا مدينةً عصيَّة على النسيان.



يا ريحانةً أرهقتني.



يا قلبًا نابضًا بالحبِّ والحروب.



ولكن أين أنا من الحب؟ وأين الحبُّ مني؟!



إنَّ الحبَّ ليصعِّر خدَّه لي كلَّما هَمَمْت بالاقتراب منه، كأنَّه على عداوة معي، وأنا الذي خلَّفت ورائي حَفنةً من أصدقاء من أجْلكِ أنتِ.



لقصة حبي حكاية تعرفينها وتجهلينها، ولكنَّك كما بقيَّة الأصدقاء افترضت أنَّك لَم تعترفي بها.



هل جئتِ لكي تعيدي عليّ قصة حبِّنا، أو إن شئتِ قصة حبي لكِ؟ أم جئتِ لكي تبعديني عن آثار الماضي القاسي، وأنتِ الماضي الذي أرَّقني، وأنت الحاضر الذي لَم يُسعدني، وأنت المستقبل الذي لا أجد سبيلاً إليه؟



أيُّ تناقض هذا الذي تحملين؟ وأيُّ قسوة هاته التي معي بها تتعاملين؟



ألأنني سَئِمت قانون الصداقة، وجِئت أبحث عن حبٍّ بلا شروط، عن حبٍّ بلا مقابل، وإذا أنا أرجع لنقطة البَدء؟



منذ البَدء كنتُ أبحث عن وطنٍ يضمني، ويحنُّ عليّ ويرأَف بي، ويسمع مني ويستمع إليّ، وإذا أنا لا أجد سوى مدينةٍ محصَّنة كأشدِّ ما يكون التحصين.



ورفضْتِني إذن!



ولكن آثار الدَّمار بادية على جسدي وفي ذاكرتي، وأنا الذي لَم أُشْفَ من ماضيّ ومِن ذاكِرَتي.



ألَم تَحسبي حسابًا لذلك الأثر النفسي الذي خلقْتِه في كِيان رجلٍ لا يستطيع المراوغة؟



أم كانت دعوةً منك؛ لكي أجرب أسلحة أخرى؛ كي أحتلَّكِ؟



من أين أبدأ عذابنا؟ أو إن شِئْت من أين أبدأ عذابي معكِ؟ أمِن يوم أغريتِني؟ أم من لحظة عنفتني ورفضتني؟ أم من لحظة خنتني؟ وأنت التي أنهيتِ قصَّتكِ معي بكلمة، وأنا الذي بدأت قصتي معك حيث انتهيت مني، وتركتني أسيرًا لفُوَّهة روايتي، روايتي التي لَم تكتمل إلا بجرح عميق في داخلي.



جرحي ينزُّ وينزف بغزارة، ولَم يكن أحدٌ بجانبي إلاَّ أنتِ، ولكن لَم تشعري بأني أحتاجكِ كثيرًا الآن أكثر من أيِّ وقتٍ غيره.



رُبَّما شعرتِ بهذا، ولكنَّك انتقمْت لنفسكِ أو انتقمت لأني لستُ كما كنتِ تظنين أو تعتقدين.



رُبَّما لَم يكن بدٌّ من أنْ أقدِّم لك الشروحات حتى تحبِّيني، ولكنني حسبتك صديقةً لي.



إنَّ الأصدقاء لا ينتظرون الشروحات؛ لأنهم يقبلوننا دون شُرُوط، وها أنت تُملين عليّ شروطًا صعبة؛ بحثًا عن الحبِّ الضائع.



قصتي معكِ أسطورة بابليَّة مات أبطالُها على ضفاف الأنهار، قصتي معكِ خُرافاتٌ صدقتُها، وكذَّبت نفسي.



كذَّبت نفسي حينما حدثتْني بأننا مختلفان، وبأننا ضدان، وبأننا متناقضان، ولكن جِئتُ إليكِ مع هذا متجاهلاً ذلك الصوت الخانق.



أوَيموت الأبطال في قصص الأساطير؟! رُبَّما يموتون، ورُبَّما هم ماتوا بالفعل، ولكنَّ الناس خلَّدوا ذكْرَهم؛ ليَبقوا معهم في دخيلتهم، وفي قريرة ذَوَاتهم.



هم يحبون الأساطير؛ لأنها تجعلهم يتصالحون مع نفوسهم العطشة إلى الخلود والبقاء.



وأنا الذي جِئت إليك مُضَرَّجًا بدمائي، عَلِّي أجد عندك مأْوًى آوي إليه.



الدماء غالية وباهظة الثمن؛ ولهذا نجد كثيرًا منها تُراق في بلاد كثيرة دون ثمنٍ! دون مُجيب! دون مَن يسأل: لماذا نحن هكذا؟!



ويلات الحروب والمعارك جعلَتْ من منظر الدماء أمرًا عاديًّا، تُصبح على الدماء، وتُمسي على الدماء، ولا أحدَ يَستنكر ذلك.



الغريب أنَّ الدول العربية لا تحرِّك ساكنًا، ولا يَستثيرها منظر شلالات الدماء التي تُراق كلَّ يوم، كلَّ ساعة، كلَّ لحظة من لحظات العُمر.



لماذا وصلْنا إلى هاته الرَّتْوة أو إلى هاته الدَّركة من الانحطاط، في حين أن هناك منظماتٍ لحقوق الحيوان تُنْفق ملايين الدولارات لحمايتها؟!



أيَّة مفارقة هي؟! وأيُّ تناقضٍ هو؟!



ما زال طيفكِ يُراودني ويضطرني إلى أن أتأمَّلَ أحوال العالَم، بعد أن كنتِ أنتِ عالَمي.



ما زال صوتك العذب يطرق مسامعي كماءٍ رَقْراق ينحدِر بشكلٍ موسيقي جميل، وما زالت هيبتكِ تربكني وكأنَّكِ أمامي.



تَروي لنا القَصص عن شابٍّ قتَله العطش في بيداء حارَّة جدًّا، ثم لَمَح مِنْ بُعْد دوْحة صغيرة بها ماءٌ عذبٌ، فما زال يستحثُّ الخُطى، حتى إذا لَم يكن بينه وبينها إلاَّ شبرٌ واحد، قضَى وهلَك.



وأنا الهالك من بعدك، وأنا المقتول بسببك، المجروح لأجلك، المتناقض الشعور.



فوضويٌّ أنا حينما أردتُ الحياة، فآثرت الموت لأجْلك، ولأجْل تلك العيون العسلية التي تسحرني أبدًا.



ما جنايتي حتى تستبدي بي، وتسجنيني في زنزانة أفكاري؟



ما جُرمي حتى تُشيحي بوجْهك البَهِيِّ عنِّي؟



ثم أي تناقض هذا الذي تحملينه؟ تسرقين نظراتك صوبي على غفلة منِّي، وكأنَّك تريدين أن تبحثي في جِرْمي النحيل عن آثار الطَّعنات والألَم.



إن الألَم سيدتي بادٍ في وجهي، ظاهر في عينيّ، بارزٌ في كلِّ كِياني، ولكن الألَم الأكبر أحتفظُ به في داخلي؛ حتى لا أجعلك تسخرين مني، وتستبدِّين أكثر، أخاف على نفسي من مزيد إخفاق ونظرة انتصارٍ.



أتُراك انتصرت عليّ؟ أم أنا الذي هزمت مِن أوَّل جوْلة، من أوَّل محاولة، ومن أوَّل تجربة؟



تُذَكِّرني انتصاراتك بالحروب الباردة التي شنتْها أميركا والاتحاد السوفيتي على بعضهما بعضًا.



وحربي معك باردة، ولكن من نوعٍ آخر، أنت تستعرضين قوَّتك، وأنا أستعرض ضَعفي، فأي حربٍ هاته؟ وأيُّ تكافؤ بين المعسكرين؟



ولماذا حوَّلنا قضيَّتنا إلى سِجال؟ كان يكفي أن توافقي، وكان يكفي أن نعيش معًا بقيَّة عُمرنا بسرور المنتصر.



كان يكفي أن نعيش بأمانٍ، أو إن شِئْت بهُدنة تستمرُّ إلى زمن طويل قابل للتمديد.



ولكنَّ عنادكِ أصرَّ على جعلك في موضع تظنين فيه أنَّك انتصرت، وأنَّكِ بذلك تستحقين أن تصبحي قائدة للحروب ضدِّي، أو ضدَّ المسالِمين مثلي تمامًا.



ولكنَّ الحقيقة أنَّك تنزعين في كلِّ عمل إجرامي ضدي نجمةً من النجمات الملقاة على كتفك؛ لتصبحي بعدها خالية الجعبة من كلِّ شيء.



ثلاث سنين بعد أن انتهتْ قصتك معي من الكفاح المسلح بيني وبين همومي، وأنت التي علَّمتني قسوة الحروب وشدَّة المعارك.



كنت أطوي ليلي ساهرًا أعدُّ النجوم؛ لعلِّي أبحث عن نجمة تُشبه امرأة هي أنتِ.



كنت أرى القمر متألِّقًا أكثر في كلِّ مرة، فخمَّنت أنَّك تنظرين إليه مثلي أنا.



أنت الحبُّ المستحيل والأمل الضائع، والبهجة التي لَم تتمَّ، والبهجة التي لَم تكتمل.



ثم إنَّه تزوَّج بعد ذلك بسنواتٍ فتاةً بُهِر بجمالها وأدبها، ودينها وأخلاقها، وغُبِط بها وسَعِد، وعاش معها عيشة هنية، ولَم يكن يتصوَّر أن هاته الفتاة التي تزوَّجها تخلو منها حياته، فطَفِق يحمد الله - تعالى - على هاته الدُّرَّة السنيَّة والمنحة البهيَّة التي تتمثَّل بها السعادة والهناء.



ثم إنَّه في أثناء سعادته بها خطَر له شيءٌ من الماضي الأليم، وإذا هو يستعيد مرَّة أخرى قصته البائسة مع تلك الفتاة الخائنة، وإذا هو يتبرَّأ منها ومِن هاتيك الأيام المظلمة، وإذا هو يَحمد الله مرة أخرى على أن صرَف عنه عذابًا يكدِّر عليه عيشه.



ثم إنه هبَّ يعاهد الله - تعالى - على أن يسعدَ امرأته الأثيرة كما أسعدتْه، وأن يمنحَها حنانه ودِفء مشاعره كما أبهجتْه، وأن يرفق بها قارورةً كما صانتْه، وإذا هو يتضاءل ذكْرى ماضيه؛ حتى كمنتْ في زاوية من زوايا قلبه، ثم إنها تلاشَت كأسرع ما يكون التلاشي.



وإذا هو يفكِّر في حاضره، وإذا هو يُبصر بعين بصيرته الحبَّ الذي كان يأمُل، في النور كما كان يحلم، وإذا هو يرى زوجته.



إنها زوجته الحبيبة وامرأته الرائعة التي عرَفت كيف تكون الحياة، بالأمل والتفاؤل، والغبطة والسرور، وإذا هو يراها ملكة عرشه، وإذا هو يَخالها غلاف رُوحه وحبَّة قلبه، وإكسير حياته، ووسام صدْره، ورَيْحانة عُمره، وفيْض أحاسيسه، وإذا هو يتيقَّن من ذلك، فيزداد تمسُّكًا بها وتشبُّثًا.





إنها المتاع الخالد، والظفر المبين، والنصر المؤزَّر، والكنز العظيم، والدُّرَّة المصونة، والجمال الأخَّاذ، والمحيَّا العذب، والقوام الرائع، والدِّين المتين، وكل شيء في حياته، ألَم يقل الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: ((الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة))؛ حديث صحيح؟


نشر في موقع الألوكة
http://www.alukah.net/Literature_Language/0/31482/